ليلى والسر المدفون: من طردوها للشارع… لصاحبة الإمبراطورية الخيرية
في ليلة شديدة البرودة، سادها سكون عميق، جلست ليلى وحيدة أمام نافذتها، عيناها مغرورقتان بالدموع وهي تتأمل السماء. لم يكن هناك سوى صوت الرياح العاصفة تصطدم بالزجاج، بينما كان قلبها يخفق ألماً في داخل صدرها. لقد كان يومًا عصيبًا، بل الأصعب في حياتها بعد فقدان والدها الذي تركها وحيدة في هذه الدنيا.
أخوتها، الذين ظنتهم سندًا وعونًا، تخلوا عنها وألقوا بكل المسؤولية على عاتقها. بل وصل بهم الأمر إلى طردها من البيت الذي نشأت فيه، قائلين لها بفظاظة: "لم يعد لك مكان هنا بعد موت أبيكِ." حملت ليلى حقيبتها الصغيرة وخرجت من المنزل، لا تدري إلى أين تذهب. كان الليل قد أقبل بظلامه وبرده القارس، والشارع خالٍ إلا من أنينها الذي يمزق الصمت. لم يكن في جيبها سوى مبلغ زهيد من المال، لا يكفي لطعام أو حتى لمواصلات.
ولكن وسط هذا اليأس الحالك، تذكرت صديقتها "هند"، الفتاة الطيبة التي كانت معها في المدرسة. قررت أن تذهب إليها، ربما تجد عندها حضنًا دافئًا. وبالفعل، فتحت لها هند الباب بكل حب وقالت لها: "هذا بيتك يا ليلى، وأنتِ أختي قبل أي شيء."
استقرت ليلى في غرفة صغيرة بمنزل هند، كانت تحتوي على سرير قديم ومروحة سقف تصدر صريرًا مزعجًا، لكنها بدت لها كجنة. حضن هند الدافئ، وكوب الشاي الذي قدمته لها، أشعراها بأنها لا تزال بخير، حتى وإن أغلقت الدنيا أبوابها في وجهها، فلا يزال هناك قلوب تعرف الحب بلا مقابل.
في الأسبوع الأول، لم تتحدث ليلى كثيرًا، لكن دموعها كانت تحكي قصصًا لا نهاية لها. كانت تنام بصعوبة كل ليلة، وتستيقظ على كوابيس يتردد فيها صوت أبيها وهو يوصيها: "خلي بالك من نفسك يا ليلى، لا تثقي في أحد." ظلت هذه الوصية ترن في أذنيها، خاصة بعد ما فعله بها إخوتها.
بدأت هند تساعد ليلى في البحث عن عمل، قائلة لها: "لا يمكنكِ البقاء هكذا، يجب أن تنهضي وتقفي على قدميكِ. أنتِ قوية، لكنكِ تحتاجين أن تؤمني بذلك." وبالفعل، نزلت ليلى مع هند وقدمت أوراقها في حضانة قريبة، وعملت كمساعدة معلمة للأطفال. ورغم أن الراتب كان بسيطًا، إلا أنها كانت سعيدة لأنها استطاعت الاعتماد على نفسها.
بعد بضعة أسابيع، سمعت ليلى من صاحبة الحضانة أن هناك رجلًا يمر دائمًا ويتأملها وهي تلعب مع الأطفال. كان الرجل أنيقًا ومحترمًا، ووجهه مألوفًا... حتى اكتشفت أنه المحامي الذي كان يتولى شؤون ميراث أبيها! وهنا بدأ قلبها يخفق بسرعة. هل أتى ليتجسس عليها؟ أم ليقول شيئًا مهمًا؟
كان اسم الرجل "الأستاذ فؤاد"، وفي يوم من الأيام دخل الحضانة بنفسه وطلب أن يجلس مع ليلى لخمس دقائق. قال لها: "كان يجب أن أقابلك منذ زمن... هناك أشياء يجب أن تعرفيها عن أبيكِ." اتسعت عيناها من الصدمة، وعجز لسانها عن الكلام. ما الذي يمكن أن تكون لم تعرفه عن أبيها؟
أخرج الأستاذ فؤاد من جيبه ظرفًا أصفر قديمًا، مكتوبًا عليه بخط يد أبيها: "للأمانة.. يُسلَّم إلى ابنتي ليلى بعد وفاتي." كانت يداها ترتجفان وهي تفتحه... ووجدت بداخله رسالة طويلة، مكتوب فيها تفاصيل عن أرض واسعة كان أبيها قد اشتراها وتركها باسمها. كانت هذه الأرض على أطراف البلد، وبجوارها فيلا صغيرة مهجورة، لم يكن أحد يعرف عنها شيئًا.
جلست ليلى تنظر إلى الرسالة ودموعها تنهمر، غير مصدقة ما تقرأه... كان أبوها يخفي عنها أنها تملك أرضًا واسعة وفيها فيلا، وكل ذلك باسمها! حينها سألته بصوت خافت: "لماذا لم يخبرني من قبل؟ لماذا ترك إخوتي يطردونني؟"
أجابها الأستاذ فؤاد: "كان أبوكِ خائفًا... خائفًا من طمع إخوتك. وكان يعلم أنهم سيتغيرون بعد وفاته." عرض عليها فؤاد أن يذهبا معًا لرؤية الفيلا، وقال لها: "هذه الفيلا ملككِ، ولا يحق لأي مخلوق فيها سواكِ. كانت أمانة من أبيكِ، وكان ينتظر اللحظة المناسبة لتصل إليكِ." وبالفعل، وافقت ليلى على الذهاب لرؤيتها، لكن كان هناك قلق يخالجها... شعرت أن هناك شيئًا أكبر من مجرد فيلا وأرض!
وصلوا إلى المكان... فيلا مهجورة لكنها بدت فخمة، وحولها نباتات ذابلة وشجيرات زرع فيها ورد قديم. لكن أكثر ما لفت انتباه ليلى كان القفل الكبير على الباب. وتساءلت: "هل من المفترض أن أعيش هنا؟"
رد فؤاد: "هذه مجرد البداية... بداخلها أسرار كثيرة، أسرار عن أبيكِ، وعن عمله، وعن أشياء ستفهمينها عندما تدخلي."
أول ما فتحت الباب، استقبلتها رائحة قديمة... رائحة الزمن الماضي، ورائحة الذكريات. كانت الفيلا مغطاة بالغبار، لكن على الجدران صور لأبيها، وأشخاص آخرين لم تعرفهم... وكان هناك مكتب مغلق، والمفتاح مربوط بخيط داخل الرسالة التي تركها أبوها. فتحت المكتب... ووجدت بداخله أوراقًا كثيرة، وعقودًا، ودفاتر قديمة. ومن بين الأوراق، وجدت ملفًا عليه اسم أحد إخوتها الكبار! والمفاجأة أنه كان متورطًا في قضايا تزوير باسم والدهم، وكان يستغل اسم أبيهم بعد وفاته!
صُدمت ليلى وقالت: "يعني هم ليسوا فقط طردوني... بل كانوا يسرقون اسم أبي؟" نظر إليها فؤاد وقال: "كان يجب أن أخبركِ، لكنني كنت أنتظر اللحظة التي تكونين فيها قوية بما يكفي لتسمعي." وحينها شعرت ليلى أن حياتها كلها كانت تُعد لهذه اللحظة... لحظة المواجهة، لحظة الحقيقة، لحظة القوة.
قررت ليلى ألا تسكت. ذهبت إلى النيابة وقدمت الأوراق التي تثبت التزوير والاختلاس. وفي غضون أيام، ألقت الشرطة القبض على أخيها الأكبر، وبدأت التحقيقات تأخذ مجراها. وحينها، صُدم إخوتها الآخرون... من كان يتخيل أن ليلى "الضعيفة" هي التي ستقلب الطاولة عليهم؟
وسط كل هذا، لم تكن ليلى تنوي الانتقام... كانت تريد فقط أن تظهر الحقيقة. وذهبت لزيارة أخيها في السجن، ونظرت إليه وقالت: "لم آتِ لأفرح بك... لقد أتيت لأقول لك: كان يمكن أن نكون إخوة حقيقيين، لكنكم اخترتم الجشع." خرجت ليلى من السجن ودموعها محبوسة... ليست فرحة، وليست حزينة... شعرت بغصة في قلبها، لأن ما حدث لم يكن يجب أن يصل إلى هذا الحد. لكنها حلفت لنفسها: "من هنا فصاعدًا... لن أسكت مرة أخرى، ولن أسمح لأحد أن يظلمني."
عادت إلى الفيلا... وبدأت تنظيفها بيديها، وكل جزء كانت تمسحه كانت تشعر أنها تمسح وجعًا قديمًا. وبينما كانت تنظف، وجدت صندوقًا خشبيًا قديمًا، وكان مفتاحه معلقًا على صورة أبيها. فتحته... ووجدت بداخله شرائط كاسيت بصوت أبيها يحكي فيها عن أسرار عمله، وعن أشخاص كانوا يطاردونه من أجل المال، ومن أجل مشروع ضخم كان سيغير مستقبل العائلة.
استمعت إلى الشرائط كلها، واكتشفت أن أباها كان يحاول حمايتهم من خطر كبير، وأنه خبأ المال والمستندات في الفيلا، حتى لا تقع في أيدي الأشخاص الخطأ. وفي آخر شريط سمعته يقول: "لو كنتِ تسمعين هذا يا ليلى، فاعلمي أنني كنت واثقًا أنكِ أقوى منهم جميعًا... وأنكِ الوحيدة التي ستحمي تاريخي."
شعرت ليلى بقشعريرة وهي تسمع كلماته. انهمرت دموعها، وضمت الشريط إلى قلبها، وقالت: "لن أخيب ظنك يا أبي... وسأجعل اسمك يظل منيرًا."
بدأت تتواصل مع أشخاص كان أبوها يعمل معهم، ومن بينهم مهندس كبير اسمه "عم حسين"، رجل كبير في السن لكنه كان يعرف كل التفاصيل. قال لها: "كان أبوكِ ينوي بناء مشروع مدرسي للأيتام... كان يقول دائمًا: سأترك شيئًا يجعلني أعيش بعد موتي."
قررت ليلى أن تُكمل حلم أبيها... أخرجت كل الأموال التي كانت مدفونة في الفيلا، ووضعت خطة لبناء المدرسة، وسجلتها باسم "مدرسة نبيل الشوربجي – للعلم والنور".
بدأ الناس يسمعون عن المشروع... وبدأت وسائل الإعلام تتحدث، وكتبت الصحف عن الفتاة التي استردت حق أبيها، وأكملت حلمه، دون أن تطلب شيئًا. بدأ إخوتها الآخرون يتحدثون معها، وقال أحدهم: "نحن آسفون... كنا طماعين، وسامحينا." لكن ليلى قالت بهدوء: "لقد سامحت من قلبي، لكنني لن أنسى أبدًا."
أجرى معها أحد الصحفيين مقابلة، وسألها: "ما الذي جعلكِ تصلين إلى كل هذا؟" ردت بابتسامة هادئة وقالت: "الظلم يكسر، لكنه يعلم أيضًا. وقد تعلمت أن من لديه حق، يجب أن يقف ويطالب به، مهما طال الزمن."
تم بناء المدرسة، وافتتحوها في يوم مشمس وجميل... دخل الأطفال الأيتام الفصول، والضحكة تملأ وجوههم. وقفت ليلى تنظر إليهم من النافذة، ونظرت إلى الأعلى وقالت: "رأيت يا أبي؟ حلمك اكتمل... وحلمي أيضًا."
جاءها خطاب من الحكومة، فيه شكر وتقدير، وميدالية شرف. ودعاها رئيس الوزراء بنفسه إلى مؤتمر عن تمكين المرأة، وقال عنها: "نموذج للفتاة المصرية الأصيلة التي استطاعت أن تغير واقعها بإصرارها."
وسط كل هذا، ظل فؤاد بجانبها، يساعدها بكل ما يستطيع... وفي يوم من الأيام، وقف معها في الفيلا وقال لها: "لم أكن مجرد محامٍ... كنت صديقًا لأبيكِ، ووعدته أن أحميكِ." نظرت إليه ليلى وقالت: "وقد وفيت بوعدك... وأنا ممتنة لك طوال عمري."
مرت السنين... وكبرت المدرسة، وأصبحت ليلى رمزًا للخير في بلدها. وتم عمل فيلم وثائقي عنها بعنوان: "الفتاة التي استردت حق أبيها".
أصبحت ليلى تزور المدرسة كل أسبوع، تجلس مع الأطفال، وتحكي لهم قصصًا من حياتها، وتقول لهم: "كنت مثلكم، لم يساندني أحد... لكن الله لا ينسى أحدًا أبدًا." أتت إليها فتاة صغيرة اسمها "ملك"، وقالت لها: "أنا أيضًا يتيمة مثلكِ... ولكن عندما أكبر، أريد أن أكون مثلكِ يا أستاذة ليلى." حضنتها ليلى... وانهمرت الدموع من عينيها، وقالت: "وستكونين أفضل مني أيضًا... أنا واثقة."
في حفل تكريم لرواد العمل المجتمعي، وقفت ليلى على المسرح، وأمامها آلاف الناس. وقالت في كلمتها: "أنا لست بطلة، أنا فقط واحدة أوجعتها الحياة... لكنني قررت أن أوجعها أنا باسترداد حقي، وبالعطاء."
قرر إخوتها الثلاثة أن يعترفوا أمام الناس بأنهم ظلموا أختهم، وأنها كانت أحن وأوفى منهم جميعًا. وأصبحوا هم من يساعدونها الآن في مشاريعها الخيرية، كما وقفت هي معهم عندما سقطوا.
تبرع أحد رجال الأعمال بقطعة أرض كبيرة، وقال: "هذه الأرض للسيدة التي علمتنا معنى الظهر الذي لا ينكسر." قررت ليلى أن تبني عليها مستشفى خيريًا، وسمته "دار الشوربجي للرحمة".
فؤاد، الذي أصبح صديقها المقرب جدًا، قرر أن يتقدم لخطبتها بعد سنوات من الصبر والاحترام. قال لها وهو ينظر إليها بعينين تفيضان طيبة: "كنت أنتظر هذه اللحظة منذ زمن... هل يمكنني أن أشارككِ بقية الرحلة؟"
ابتسمت ليلى وقالت له: "بعد كل ما مررنا به، لا يوجد أحد غيرك أستطيع أن أكمل معه." وتم عقد القران في المدرسة، أمام الأطفال الذين اعتبروها أمهم. اجتمع الناس جميعًا، أصدقاء وأعداء، لكن الجميع كانوا يصفقون لها، ليس لثرائها، ولكن لكرامتها، ونبلها، وقلبها الذي لم يحمل حقدًا أبدًا.
بعد سنوات، أصبحت ليلى أمًا، وقالت لها ابنتها الصغيرة وهي تتفرج على صورة جدها: "هل هذا هو من حلم الحلم؟" قالت لها ليلى: "نعم يا حبيبتي... وأنتِ ستكملين الحلم الذي بدأه."
وقفت ليلى في شرفة الفيلا التي بدأت منها كل الحكاية... نظرت إلى السماء، والنجوم تلمع، وقالت بصوت خافت: "يا أبي... لقد استرددت لك حقك، وحق نفسي... والحلم لا يزال يكبر." لف الهواء حولها، وكأن الزمن يعانقها، وسرحت عيناها بعيدًا، لكن قلبها كان دائمًا حاضرًا، قلب بنت مصرية... ظُلمت، لكنها لم تستسلم.
Commentaires
Enregistrer un commentaire