فجأة شعرت بشيء رطب على وجهها، ففتحت عينيها فإذا بغزالة صغيرة تلعق وجهها، وقطيع من الغزلان يمر بجانبها. تحاملت على نفسها وتبعت الغزلان حتى وصلت إلى أرض فيها ماء، فشربت واستحمت وأكلت العشب الطري من شدة جوعها. ظنت الغزلان أنها واحدة منهن، فلم تخف منها وأحست بالأمان بينهن، فقد كن يحببنها. قالت في نفسها: "الحيوانات لا تعرف الجشع ولذلك لا تظلم. وما دخل حب الدنيا على قوم إلا أفسد ما في أنفسهم. مرحى للغزلان وبؤس للبشر".
ثم بدأت تفكر في الانتقام من المؤذن بلا رحمة، لتستعيد حقها وتجعل منه عبرة لمن يعتبر. بقيت وجدان مدة من الزمن مع الغزلان، تأكل العشب وتشرب من لبنها وتصطاد الفرائس الصغيرة حتى توحش بدنها ولم تعد تخاف من شيء. وذات يوم، وجدت متاعًا لأحد المسافرين الذي هلك في الصحراء، وكان من بينه مقص وخيط. فأخذت الجلد وقطعته، ثم جعلته ثوبًا وقصت شعرها الطويل وفرته وتقلدت سيف الرجل. وأخذت حجر صوان فأصبحت تشعل النار وتطبخ الجذور والأعشاب واللحم، فتحسنت حالتها. وفي الليالي الباردة، كانت الغزلان تجتمع حولها فتتدثر في فرائها وتتحدث إليهن عن أبيها وأخيها، وتقسم أن تنتقم من المؤذن دون رحمة.
وفي أحد الأيام، وصلت إلى أرض خضراء كثيرة الماء، فانبرت وصارت تستحم وتغني. وأخذت أعشابًا عطرية دهنت بها جسدها، ووضعت زهورًا حمراء على شفتيها فصار لونهما قرمزيًا. ولما نظرت الغزلان إلى وجدان أعجبت بجمالها وحركت آذانها الصغيرة فرحًا، فقد أصبحت لهن ملكة قوية وجميلة.
وذات يوم، خرج ابن السلطان للصيد مع رفاقه، ورأى من بعيد قطيعًا من الغزلان يرعى. فركض بفرسه مع رفيقه في القصر الذي كان رجلًا ذو عقل وفطنة. اقترب الأمير منهن، ولشدهته لم يهرب أحد ورفعن رؤوسهن ونظرن إليه، ووصلن إليه الأكل وكأن شيئًا لم يكن. فضحك الرفيق وقال له: "يعتقدن أنك فراشة أيها الأمير، أو ربما ببغاء". لم يضحك الأمير وصوب قوسه إلى أقربهن إليه، ففجأة خرجت له فتاة ليس هناك من هو أجمل منها. قالت: "أنصحك أن لا تفكر بذلك إن كنت تريد الرجوع سالمًا إلى أهلك". صاح الرفيق: "أغلقي فمك، فأنت بحضرة الأمير". فأجابته: "وأنا أميرة هذه الغزلان، ولأني أحميها لم تخف منكم". قال الرجل: "لم أرَ في حياتي أخبث لسانًا من هذه الجارية. هل تريد أن أنادي الحرس ليؤدبها؟" فأجابه الأمير: "لقد حمت رعيتها وهذا ما كنت لأفعله لو كنت مكانها". ثم انصرف مع رفاقه إلى مكان آخر.
لكن ابن السلطان الذي كان يدعى محمدًا كان شارداً وأخطأ جميع الفرائس التي رماها بقوسه. ولما حضر الطعام لم يمد يده، فجاءه رفيقه وسأله: "لقد ربيتك لما كنت صغيرًا وهذه النظرة في عينيك لا تعجبني. فقل لي ماذا أصابك؟" فأجابه: "لقد أخذت تلك الفتاة قطعة من قلبي، وإن لم أرها وأكلمها سأموت". ارتعب الرجل وقال: "ومن أدرانا أنها ليست من الجن؟ على كل حال سأعرف من تكون. فإذا كانت إنسية أتيتك بها، أما إذا كانت جنية فلا أقدر على شيء فهم ليسوا مثلنا".
وفي الغد، أحضر قصعتين من الكسكس: إحداهما فيها ملح وتوابل والأخرى ليس فيها شيء، ووضعهما قرب القطيع ثم اختفى وراء الأشجار. شمت الفتاة الرائحة فحملت القصعة التي فيها التوابل وتركت مكانها أرنبًا مسلوخًا حتى يشبع. وقال: "هي إذًا من الإنس. سأذهب إليها". قال رفيقه: "لا تتعجل". وصار يحمل إليها كل يوم طعامًا وهي تترك شيئًا في كل مرة، حتى مر على ذلك سبعة أيام. أما وجدان فقد أعجبها الطعام الساخن الذي لم تذقه منذ مدة طويلة، وكانت تعرف أن الأمير هو من يرسله لها، فقد لاحظت منذ اليوم الأول الحب في عينيه، وكان من المفترض أن ترحل من هنا كي لا يعرف مكانها الصيادون والسباع، ولكن قلبها قد خفق لذلك الولد ولأول مرة منذ أشهر طويلة أحست بالأمان حولها وبأن الحياة أكثر جمالًا.
مرت الأيام وشوق ابن السلطان يشتد حتى أتاه رفيقه بطبق من السمك والأرز لا يزال البخار يتصاعد منه، وقال له: "اذهب وكل مع جاريتك، لا شك أنها جائعة". فلما رآه قادمًا ارتبكت، فهذه أول مرة تجلس مع فتى. طأطأت رأسها وعلت محياها حمرة الخجل، وخيل لها أن الغزلان تضحك منها. لكن الأمير ابتسم لها حبًا وقال: "تعالي لنأكل، ولقد أمرت بجزر وخص وبرسيم للغزلان". وما هي إلا لحظة حتى جاء العبيد بالقفة، فجاءت الغزلان لتأكل بعدما نظرت بعيونها الواسعة العسليتين إلى الأمير، كأنها تشكره على معروفه. وبسرعة زال الخجل عن وجدان ومدت يديها وبدأت تأكل، تثني على لذة السمك. كان محمد ينظر إليها وقد علت وجهه البهجة. فقالت له: "املأ معدتك ولا تقلق، فلن أهرب. فكل شيئًا يسير". ثم أخذت قدحًا ملأته بحليب غزالة وقالت: "اشرب وهات الباقي". لكنه أجابها: "أنت أولًا". في هذه اللحظة، علمت أن الأمير يحبها بصدق وربما ستتغير حياتها، ولم يخيب ظنها.
وفي الغد جاءها وأخبرها أنه ينوي الزواج منها. قالت له: "على شرط أن تجعل هذه الأرض ملكًا للغزلان ولا يدخلها أحد سواي وأنت". فقال لها: "ليكن الأمر كذلك".
جاءت وجدان إلى القصر، وأدخلوا إياها إلى الحمام، ومشطت الجوارى شعرها الطويل، ولبست ثوبًا من الحرير الأزرق، ووضعوا الأساور والخواتم في يديها والعطر على وجهها. ثم جاؤوا بها إلى قاعة العرش، كان السلطان يتناقش مع ولده محمد وقد بان عليه عدم الرضا. فقال: "كيف تتزوج من فتاة ليست من أبناء الملوك؟ وماذا سيقول الناس عنا؟" أجاب محمد: "إنها أميرة الغزلان وقد حمتها في رحلتها الطويلة ولم ينقص منها فرد واحد، أليس من يفعل هذا جديرًا بالاحترام يا أبي؟" أجاب السلطان: "نعم، ولكن..." وقبل أن يكمل عبارته، دخلت وجدان وقد تضوعت رائحة العطر في القاعة الكبيرة. ولما رآها الأب بقي مندهشًا من حسنها وهيبتها، فقد كانت طويلة تظهر عليها علامات القوة والباس رغم صغر سنها، ولو لم يكن يعرف من هي لظنها من بنات أعظم الملوك. فالتفت إلى ابنه وقال له: "انسَ ما قلت لك عليه، فأني قد أخطأت في حقها. والآن عرفنا على عروسك، فوالله لقد ازدان مجلسنا بحسنها".
ثم سألها السلطان عن قصتها، فأخبرته بكل ما حصل لها، وكيف ظلمها أبوها وأراد قتلها، ولكن مشيئة الله أرادت أن تنجو من الصحراء والسباع وتقود شعبها من الغزلان في رحلة طويلة في الصحاري والمفاوزات حتى وصلت إلى تلك الغابة، وقابلت الأمير محمد فأحب بعضهما من أول نظرة.
كان السلطان يسمع ويتعجب من شجاعة تلك البنت وقوتها، ثم قال لها: "أعدك أن أعاقب المؤذن على لؤمه وأرجع مكانتك بين أهلك". أجابته: "شكرًا لمولاي، لكني أقسمت أن انتقم منه بنفسي وأشفي غليلي". ضحك السلطان وقال: "ما أشد باسك يا جارية، ومن حقك أن تأخذي بثارك. والآن هيا إلى الطعام والشراب".
وخرج المنادي في الأسواق يصيح: "الأسبوع المقبل زواج الأمير محمد من وجدان أميرة الغزلان". ففرح الناس وأحبوا أميرتهم لشفقها على الحيوانات وطيبت قلبها، وأقيمت الأفراح سبعة أيام وسبعة ليال، وحضر الملوك لتهنئة العروسين وحملوا الهدايا والتحف.
في اليوم المقرَّر لزواج الأمير محمد من وجدان، جاء المؤذِّن إلى القصر، وقد خيل له أن الأمر سيكون كما توقَّع. كان يعتقد أن العروس ستكون فتاة عادية، مثلما كانت تصوّر له أفكارها المسمومة، ولكن عندما رأى وجدان في ثوبها الملكي، وفي عز ما كانت تحظى به من مكانةٍ واحترامٍ، شعر بالقشعريرة في جسده، وبدأت تساؤلاته تتسارع في عقله. ماذا حدث؟ من هي هذه الفتاة؟
ومع حلول المساء، تجمع جميع أفراد العائلة المالكة في القصر للاحتفال، وكانت وجدان قد طلبت من الأمير محمد أن يراعي مشاعر الغزلان التي كانت قد أحبتها وكفلتها طوال رحلتها. فقال الأمير: "أنتِ أميرة الغزلان كما أنتِ أميرة القلوب".
وفي تلك اللحظة، قرَّر السلطان أن الوقت قد حان ليعاقب المؤذِّن على ما فعله. أرسل رسولًا إلى قريته ليخبره بالحقيقة، وأنه كان قد تآمر ضد الأمانة والعدالة، وأنه سيواجه عواقب أفعاله. عندما وصل الخبر إلى المؤذِّن، كان في غاية الذهول. أدرك أنه كان ضحية الكبرياء والجشع، ولكن بعد فوات الأوان.
أمضت وجدان أيامًا طويلة في القصر، وجعلت من رعايتها للغزلان أساسًا لرعايتها لجميع المخلوقات الضعيفة. كما عاشت حياة مليئة بالحب والتقدير من الأمير محمد وعائلته. أما المؤذِّن، فقد تم إبعاده عن القرية، وعاش باقي أيامه معترفًا بخطئه، وكان يعترف أمام الجميع بكارثته التي جلبها على نفسه بسبب طمعه وجشعه.
وجدان أصبحت مثالًا على الشجاعة والعدالة والرحمة، بينما ظلت الغزلان تلاحقها في قلوب كل من عرفوا قصتها، وكانوا يذكرونها دائمًا بكل فخر وحب. أصبحت هي وأميرها محمد قوة عظيمة في العيش معًا بتناغم، محاطين بالحب والعطف، يجسدون المثل العليا التي تعلموها من معاناتهم.
وتزوجت وجدان من الأمير محمد وسط احتفالات كبيرة، حيث تم إعلان ملكهم الجديد واحتفل الناس بخطواتهم الأولى نحو العدالة والمساواة في الحكم. حكموا سويًّا لسنوات طويلة بسلام ورخاء، وعمَّ الخير في مملكتهم بفضل العدالة التي كانت تجسيدًا للرحمة التي تحلَّت بها وجدان، الفتاة التي قادت الغزلان وأصبحت أميرة القلوب.
تعليقات
إرسال تعليق